السبت، 11 يوليو 2009

معرض الجثث



قال لي قبل أن يخرج السكين : بعد دراسة ملف الزبون تكون ملزما بتقديم نبذة مختصرة عن الطريقة المقترحة التي ستقتل فيها زبونك الأول وطريقة أشهار جثته في المدينة. لكن هذا لايعني الموافقة على ماستطرحه في تلك النبذة . سيقوم أحد المختصين بدراسة الطريقة المقترحة لاقرارها او أقتراح طريقة أخرى . هذا النظام يطبق على المحترفين ايضا في كل مراحل عملهم . أريد ان اقول بأن هذا النظام سيبقى ساريا حتى بعد أنتهاء مرحلة التدريب والأختبار التي تمر بها. لاتقلق، ففي كل الأحوال ستتلقى اجورك كاملة. لاأريد أن أخوض في جميع التفاصيل الآن. سأطلعك على الأمور بصورة تدريجية. بعد أن تستلم ملف الزبون لا تستطيع طرح الاسئلة بصورة مباشرة كما في السابق، عليك ان تقدم اسئلتك مكتوبة . جميع الاسئلة واقتراحاتك ونصوصك ستوثق في ملف خاص بك. لايمكنك مطلقا أن تكتب لي عن أمور العمل على بريدي الالكتروني او أن تهاتفني. ستكتب اسئلتك على ورق خاص سأقوم بتزوبدك به لاحقا. المهم ان تتفرغ الآن لدراسة ملف الزبون بدقة وصبر. ارجو ان تطمئن اننا لن نتخلى عن التعامل معك حتى ان فشلت في مهمتك الاولى . ستنتقل في حالة الفشل الى العمل في قسم آخر وبنفس الأجور. لكن علي ان أذكرك مرة اخرى ، لن تكون موفقة ومقبولة فكرة التخلي عن العمل بعد أول أجر تستلمه. لهذه الحالة شروط صارمة، وفي حالة موافقة الادارة على فك الأرتباط معك ، ستخضع لأختبارات عديدة قد تستغرق وقتا طويلا. لدينا في الأرشيف ملفات نحتفظ بها كنماذج من المتعاونين والعملاء الآخرين من الذين قرروا أنهاء عقودهم بأرادتهم . في حالة تفكيرك بالأمر سنقدم لك أحدى هذه النماذج للاطلاع على تجارب الآخرين. انا على ثقة من قدرتك على مواصلة العمل والأستمتاع فيه. وسترى كيف ستتغير حياتك كلها. تفضل ، هذه هي الهدية الاولى ، لاتفتحها الآن. أنه أجرك كاملا. اما الأفلام الوثائقية عن حياة الحيوانات المفترسة يمكنك أن تشتريها وسندفع لك لاحقا ثمنها. حاول ان تراقب نظرة بقايا عظام الفريسة. تذكر دوما يا عزيزي أننا لسنا أرهابيين هدفهم ايقاع أكبر عدد من الضحايا لتخويف الآخرين ،ولا حتى سفاحين مجانين نعمل من أجل المال. لاعلاقة لنا بالجماعات الاسلامية المتطرفة ولابمخابرات دولة مشبوهة ولا بكل هذه الهلوسات. أنا أعرف أن هناك اسئلة تدور الآن في ذهنك . لكنك ستكتشف تدريجيا أن العالم مشيد من أكثر من طابق ، وليس من المنطق أن يصل الجميع الى كل الطوابق والسردايب بسهولة. لاتنس المناصب الرفيعة التي تنتظرك داخل نظام المؤسسة ،إذا إمتلكت مخيلة طازجة ، شرسة ، صادمة . كل جثة تنجزها هي عمل فني ينتظر منك اللمسة الأخيرة، ولتبزغ مثل جوهرة ثمينة وسط حطام هذا البلد. أشهار الجثة أمام الآخرين هو ذروة الأبداع الذي نبحث عنه ونحاول دراسته والافادة منه. أنا لا أطيق شخصيا العملاء ذوي المخيلة المجدبة. لدينا مثلا عميل أسمه الحركي ـ سكين ابليس ـ أتمنى ان يتخلص المسوؤلون عنه بأسرع وقت. فهذا يظن أن تقطيع أوصال الزبون و تعليقه على أسلاك الكهرباء في الأحياء الشعبية هو نهاية الأبداع والأبتكار. أنه مجرد مغرور أحمق. أكره طرقه الكلاسية . رغم أنه يتحدث عن كلاسية جديدة. كل مايفعله هذا الأرعن هو أنه يصبغ أشلاء الزبون بالألوان ويعلقها بخيوط شفافة . القلب بالأزرق الداكن ، المعدة بالأخضر ، الكبد والخصيتين بالأصفر .هكذا من دون فهم شعرية البساطة. أنا أحدثك بشئ من التفصيل ففي عينيك أرى تلك النظرة الحائرة. إهدأ ، تنفس بعمق ، وأصغ الى ايقاع روحك السرية بهدوء وصبر. دعني أوضح لك بعض النقاط بطريقة أفضل فربما تساعدك على التخلص من الاوهام التي تدور في ذهنك. ولأضع بعض الوقت معك. وما سأقوله قد يكون مجرد أنطباعات شخصية ولربما لعضو آخر في الجماعة رأي مغاير تماما. انا أحب الايجاز والبساطة والصورة الصادمة. خذ مثلا العميل ـ الأصم ـ .انه هادئ وله عين ذكية صافية. وأكثر أعماله الفنية القريبة من قلبي هي تلك المرأة المرضعة. في صباح شتائي ممطر. كان جمع من المارة وسائقو السيارات ينظرون الى تلك المرأة العارية البدينة وهي ترضع من ثديها الأيسر طفلها العاري أيضا. وضع المرأة أسفل نخلة ميتة في الجزرة الوسطية لشارع مزدحم . لم يكن هناك اي أثر لجرح او رصاصة لا في جسد المرأة ولا في جسد الطفل. كانت تبدو كأنها حية هي وطفلها تماما مثل جدول ماء صاف. انها العبقرية التي نفتقدها في هذا القرن. كان عليك ان ترى ثديي المرأة الضخمتين، ونحول الطفل الذي يبدو كأنه كومة من العظام مطلية بجلد طفولي فاقع البياض . عجز الكل عن معرفة الطريقة التي قتلت بها المرأة وطفلها . أغلبهم تكهن بإستخدام سم سري لم يصنف بعد. لكن عليك أن تقرأ فقط في أرشيف مكتبتنا تلك النبذة المختصرة الشاعرية التي كتبها ـ الأصم ـ عن عمله الفني الرائع هذا. هو الآن يحتل منصبا مهما في مؤسسة الجماعة. إنه يستحق أكثر من ذلك بكثير. عليك ان تفهم جيدا ان هذه البلاد هي فرصة ثمينة أخرى من فرص هذا القرن. ربما لن يدوم عملنا طويلا . فما أن تستقر أحوال هذا البلد سنغادر مرغمين الى بلد آخر. لاتقلق ، هناك أمكان عديدة مرشحة للعمل. أسمع ... كانت لدينا دروس كلاسيكية في الماضي نعرضها على الطلاب الجدد من أمثالك. لكن الأمر تغير الآن كثيرا . اصبح الأعتماد على ديمقراطية المخيلة وعفويتها وليس التلقين. أنا درست طويلا وقرأت الكثير من الكتب المملة التي تبرر مانقوم به وقبل أن أتمكن من العمل بطريقة مهنية. كنا ندرس بحوثا تتحدث عن السلام . دروس مكتوبة ببلاغة مقرفة حقا. كان هناك الكثير من الأمثلة الساذجة والتي لاحاجة إليها ْ لتبرير كل شئ. كان أحدهم يكتب عن قضية تتحدث عن أن كل أدوية الصيدلية ، بل حتى معجون الأسنان البسيط، قد أنتج بعد التجارب المختبرية على فئران وحيوانات أخرى. إذن لايمكن تحقيق السلام على هذه الأرض من دون التضحية ببشر المختبرات أيضا. مثل هذه الدروس القديمة كانت تبعث الملل واليأس. وجيلكم محظوط للغاية في عصر الفرص الذهبية هذا. ممثلة سينمائية تلعق البوظة قد تجلب عشرات الصور والاخبار التي تصل حتى الى أبعد قرية تتضور جوعا ، في هذه الارض ، طاحونة الصراخ والرقص. وهذا يحقق على الأقل ما أسميه بعدالة التعرف على تفاهة العالم وجوهره الملتبس. فمابالك بجثة معروضة بطريقة مبدعة وسط المدينة. ربما تماديت كثيرا في الحديث معك. لكن دعني اصارحك بأني أشفق عليك. فأنت إما أن تكون أحمق او عبقريا. وهذا النوع من العملاء يثير فضولي. أن كنت عبقريا فهذا أمر مسّر. انا مازلت اؤمن بالعبقرية رغم ان أغلب اعضاء الجماعة يتحدث عن التجربة والخبرة. اوإذا كنت أحمق فدعني أروي لك وقبل أن أنصرف،حكاية قصيرة ومفيدة عن أحد الحمقى الذين حاولوا ان يلعبوا معنا بسذاجة. حتى لقبه لم يكن يعجبني. ( المسمار ) . بعد أن وافقت اللجنة على الطريقة التي أقترحها المسمار لقتل زبونه وأشهار جثته في مطعم كبير ، انتظرنا النتائج. لكن هذا تأخر طويلا في أنجاز عمله. التقيت به أكثر من مرة وسألته عن سبب التأخير. كان يقول انه لايريد أن يكرر أسلوب من سبقوه . ويفكر بتحقيق طفرة مبدعة جديدة في العمل. لكن الحقيقة كانت غير ذلك. كان المسمار جبانا تسربت الى داخله مشاعر انسانية تافهة وأخذ يتسآءل مثل كل مريض عن جدوى قتل الآخرين وعما إذا كان هناك خالق يراقب كل اعمالنا. وهذا كان يعني بداية الهاوية. فكل طفل يولد في هذا العالم هو مجرد أحتمال. اما أن يكون طيبا او شريرا حسب تصنيف مدارس التربية الدينية في هذا العالم الأخرق. لكن الأمر مختلف بالنسبة لنا. كل طفل يولد ماهو الا زيادة في حمولة المركب الذي هو على وشك الغرق. على كل حال ، دعني الآن أحكي لك عما حدث للمسمار الذي سار بنفسه صوب حتفه : كان له قريب يعمل حارسا في المستشفى وسط المدينة. كان المسمار يفكر في التسلل الى مشرحة الموتى في المستشفى وأختيار جثة بدل أن يصنع جثته بنفسه. وقد تحقق ذلك له بسهولة بعد أن قدم لقريبه نصف الأجر الذي تلقاه من الجماعة. كانت المشرحة مكتظة بالجثث التي خلفتها تلك الأعمال الارهابية الساذجة. جثث تمزقت في أنفجارت سيارات مفخخة وأخرى قطعت روؤسها في تصفيات طائفية وجثث أنتفخت في قاع النهر ، و أخرى عديدة غبية كانت قد أنجزت بفعل أعمال قتل عشوائية لاتمت بصلة الى الفن. تسلل المسمار في تلك الليلة الى مشرحة المستشفى وراح يبحث عن الجثة المناسبة لأشهارها أمام الجمهور. كان المسمار يبحث عن جثث الاطفال لأنه قدم في تقريره الأول فكرة عن نهاية طفل في السادسة من عمره .
في المشرحة كانت هناك نماذج من جثث أطفال المدارس التي مزقتها السيارات المفخخة او المحترقة في أحد الأسواق الشعبية أو أشلاء مبعثرة بعد قصف الطائرات للبيوت. أخيرا أختار (المسمار ) جثة طفل فصلوا رأسه مع رؤوس عائلته لأسباب طائفية. كانت الجثة نظيفة وبدت حواف الرقبة كأنها اطراف ورقة ممزقة. فكر ( المسمار ) في عرض هذه الجثة في مطعم وأن يضع على المائدة عيون أفراد عائلته مقدمة في صحون الدم كحساء. ربما كانت فكرة جميلة . لكن قبل كل شيء كان عمله تزويرا وخيانة. فلو كان قد فصل رأس الطفل بنفسه لجاء ذلك عملا فنيا أصيلا . لكن أن يقوم بالسرقة من مشرحة الموتى ويعمل بهذه الطريقة الوقحة ، هو عار وجبن في الوقت ذاته. لكنه لم يفقه ان العالم اليوم متصل ببعضه بعض بأكثر من نفق ودهليز. كان مرمم الجثث هو الذي قد قبض على المسمار وقبل ان يخدع الجمهور المسكين. كان مرمم الجثث في بداية الستين من عمره. رجل عملاق. أزدهر عمله في المشرحة بعد أن تكاثرت الجثث الممزقة في البلاد. كان الناس يقصدونه كي يرمم جثث أبنائهم وذويهم الذين مزقتهم الأنفجارات والقتل العشوائي . كانوا يدفعون بسخاء لكي يعيد أبناءهم الى صورهم الأولى التي عرفوهم بها . كان مرمم الجثث فنانا كبيرا حقا. وكان يعمل بصبر وبحب هائل. اقتاد المسمار في تلك الليلة الى غرفة جانبية في المشرحة وأحكم اغلاق الباب. بعد أن حقن المسمار بحقنة مخدرة ، تركته مشلولا عن الحركة من دون أن يفقد وعيه. مدده على طاولة التشريح وأوثق يديه وساقيه وكمم فمه. وكان يدندن بأغنية أطفال جميلة بصوته النسائي الغريب وهو يحضر طاولة عمله. أغنية تحدثت عن طفل يصطاد الضفادع في بركة دم صغيرة. وكان من حين الى آخر يمسد بحنان شعر المسمار ويهمس في أذنه : اوه عزيزي .. اوه صديقي ... هناك ماهو أغرب من الموت ، أن تنظر الى العالم الذي ينظر اليك، لكن من دون اي اشارة او فهم او حتى قصد. وكأنك والعالم ، متحدان بعماوة ، مثل الصمت والوحدة. وهناك ماهو أغرب من الموت بقليل : رجل وامرأة يلعبان في السرير، فتأتي انت لاغيرك . انت الذي تكتب دوما قصة حياتك بالخطأ.
وكان مرمم الجثث قد أنهى العمل في ساعة مبكرة من الصباح.
امام باب وزارة العدل كانت هناك منصة مثل منصات تماثيل المدينة مشيدة من عجينة اللحم والعظام. فوق المنصة ينتصب عمود من البرونز علق عليه جلد المسمار المسلوخ كاملا ببراعة كبيرة. كان يرفرف مثل علم نصر. وكان يمكنك أن ترى بوضوح في الجزء الامامي من المنصة العين اليمنى للمسمار مثبته في عجينة لحمه. كانت لها نظرة تشبة نظرة عينيك التافهة الآن. هل تعرف من هو المرمم. انه مسوؤل اهم قسم في المؤسسة. انه مسوؤل قسم الحقيقة والابداع.
ثم طعنني بالسكين في بطني ، وقال : انت ترتجف ..


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معرض الجثث من ضمن مجموعة قصصية صدرت باللغة الانكليزية عن دار كومابريس في انكلترا 2009
رابط المجموعة القصصية باللغة الانكليزية

هناك تعليق واحد:

Ahmed Munim يقول...

هذه من أفضل القصص التي قرأتها في حياتي. تقبل مني كل التقدير.